التدخل الإرتري في شرق السودان هل هو لحل الأزمة أم لتعميقها؟

إذاعة إرينا الدولية:15.11.2024

طالعتنا وسائل الاعلام في نهاية أكتوبر الماضي بخبر مفاده أن مليشيات قبلية   تطلق على نفسها قوات الأورطة الشرقية،  تتبع للجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة،  بقيادة الأمين داؤود  نشرت جنودها في ولاية كسلا الحدودية ، وجاء في بيان لهذه القوات ما نصه  (إن قواتكم الباسلة بقيادة الجنرال الأمين داوود محمود … تنتشر وتنفتح نحو الإقليم الشرقي بعد عملية مشاورات فنية وعسكرية مع قوات الشعب المسلحة. وتابعت أنّ ذلك يأتي ضمن استراتيجية قوات الأورطة الشرقية بحماية الأرض والعرض مع المنظومة الأمنية في البلاد)

وهذه القوات كانت قد تلقت في وقت سابق تدريبات عسكرية في إقليم القاش بركة بإرتريا ضمن فصائل أخرى  تتبع للحركات المسلحة السودانية  وهي قوات تحرير شرق السودان بقيادة إبراهيم دنيا ،و مؤتمر البجا القومي» بقيادة موسى محمد أحمد، و مؤتمر البجا المسلح  بقيادة عمر محمد طاهر، و حركة تحرير السودان الدار فورية  بقيادة مني أركو مناوي،  وباستثناء  حركة تحرير السودان الدارفورية ، تنتمي الفصائل الخرى إلى مكونات شرق السودان الناطقين بالبداويت والتقرايت . أطلقت هذه القوات على نفسها مسمى الأورطة الشرقية تيمنا بأورطة العرب الشرقية ،و التي كما تقول المصادر أنها  كانت النواة الأولى لتكوين الجيش السوداني النظامي في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1897م  بعد اتفاقية كسلا الشهيرة أو اتفاقية الحدود بين الانجليز والطليان ، والتي  تنازلت بموجبها ايطاليا عن مديرية التاكا      ( كسلا حاليا ) الى حكومة السودان،  وكانت تقدر قواتها آنذاك بكتيبة مشاة ، تم نقل رئاستها من كسلا للقضارف في 1909 م .ويعود تكوين الأورطة الشرقية في الأساس إلى أفراد من أبنا البني العامر الذين انضموا من قبل  إلى القوات  الإيطالية التي كانت متواجدة في كسلا ، بسبب رفضهم لسياسات   الخليفة عبد الله التعايشي خليفة المهدي  في حربه ضد السادة الأشراف وسياسة تجنيد الشعب في حروبه،  مما أدى لقلة الإنتاج الزراعي .  وهذه السياسات   كان لها دور مؤثر في نفوس الناس وخاصة مريدي ومحبي الطريقة الختمية لما رأوه من إهانة لمشايخهم وحبسهم واضطهادهم ، فقد قرر أبناء البني عامر الانضمام للجيش الإيطالي الذي كان متواجداً بمدينة كسلا في ذلك العهد. وقد وضعت اتفاقية كسلا الشهيرة أو اتفاقية الحدود  قوات الأورطة الشرقية أمام خيارات ثلاثة إما البقاء مع القوات الإيطالية والدخول معها إلى الحدود الارترية أو الانضمام إلى الجيش الإنجليزي أو المصري،  حيث اختارت هذه القوات الانضمام إلى  الجيش المصري لاعتبارات  دينية وثقافية كما تقول المصادر

بالعودة إلى قوات الأورطة  فإن نشر قواتها في شرق السودان دار حوله لقط كبير  وأثار ردود أفعال متباينة خاصة من مكونات شرق السودان  حيث عارضت جهات فاعلة فيها،  انتشار هذه القوات في الإقليم الذي يشهد توترا بين المكونات الاجتماعية المتنافسة ، فقد اعتبرت بعض القيادات السياسية المناوئة لانتشار هذه القوات  أن انتشارها بمثابة حرب بينها وبين البجا بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حيث وصفتها بأنها بقايا المعارضة الارترية ، في إشارة إلى المكون أو الحاضنة الاجتماعية التي تنتمي إليها وهي قبائل الحباب والبني العامر الحدودية  ذات العمق في الداخل الارتري،  بالرغم من أن البجا الناطقين بالبداويت لهم ذات العمق والوصف لكن بدرجة أقل . بينما يتخوف البعض من أن يؤدي انتشار الحركات المسلحة المختلفة في شرق السودان إلى حدوث مواجهات بينها  في ظل توتر علاقة بعض قياداتها مع قيادات الجيش ، ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك إذ يرى أن هذه القوات ما هي واجهة لتدخل ارتري محتمل لصالح الجيش السوداني في شرق السودان في حال حصل تقدم من الدعم السريع تجاه شرق السودان خشية أن تصل شرارة الحرب إلى الحدود الارترية وتلقي بتبعياتها الأمنية على النظام الارتري. ، وتزامن نشر هذه القوات مع زيارة قام بها مجموعة من الصحفيين السودانيين إلى العاصمة أسمرا التقوا خلالها الرئيس الارتري أسياس افورقي ،الذي  أفصح لهم فيها عن وجهة نظر قائد قوات الدعم السريع للجيش السوداني وتهربه من الإجابة عن سؤاله له عن أسباب عدائه أو كراهيته للجيش السوداني، وغيرها من المعلومات التي تداولتها وسائل الاعلام آن ذك،  بالإضافة  إلى تشديده   على حرمة المساس بالجيش السوداني الذي وصفه بأنه يمثل العمود الفقري للدولة السودانية، ومن دونه لا يمكن بناؤها مشيرا إلى ضرورة بناء جبهات سياسية وإعلامية ودبلوماسية لدعم الجيش في معركته.  وقد طالعتنا وسائل الاعلام هذا الأسبوع بأن الرئيس الارتري اطمئن الاحد الماضي  على استعدادات قوات الأورطة الشرقية وجاهزيتها لما سمته بالمشاركة والتصدي  لحماية السودان والتصدي لكل الاطماع الأجنبية،  وجاء في بيان الجبهة الشعبية المتحدة أن الوفد  توافق مع الرئيس الارتري على مشتركات تتعلق ببناء مشروع وطني يحصن سيادة الدول والمنطقة من أي تدخلات سالبة تزعزع الاستقرار السياسي والاجتماعي، وفق ما ذكر موقع راديو دبنقا. والمتتبع لهذه التحرك أو هذه الاحداث مستمعي الكرام ومستمعاتي الكريمات يدرك يقينا أن نشر هذه القوات لا يمكن يكون تم دون علم وموافقة الرئيس الارتري ، وأن لإرتريا يدا طولى في ملف إدارة الازمة السودانية من خلال بوابة شرق السودان   الذي  تجيد التلاعب  بإدارة ملفه وتداعياته الأمنية ، بحكم رعايتها  للحركات المسلحة  لشرق السودان في عهد النظام السابق   قبل التوقيع معه على الاتفاقية المعروفة باتفاقية جبهة الشرق العام 2006 ،،،في العاصمة أسمرا  بحضور الرئيسين الارتري أسياس أفورقي والسوداني آن ذلك عمر البشير،  وهي الاتفاقية التي أوصلت موسى محمد أحمد إلى القصر الجمهوري كمستشار للرئيس السوداني والعين الساهرة  للرئيس الإرتري  في ذلك القصر  

فالتدخل الارتري في الشأن السوداني  لم يكن يوما لمصلحة السودان ، ولا حبا للسودان وأهله ،، بقدر ما هو  لمصلحة النظام الارتري ، يقول الدبلوماسي والكاتب الارتري فتحي عثمان في مقال له بعنوان ، أفورقي وأزمات السودان الواقع والمأمول:  بخصوص موقف أفورقي من الأزمة في السودان يجب النظر إليه ضمن منظوره الكلي للبلاد، وليس ضمن تفاعلات الأزمة الراهنة فقط. ففي مقابلة له مع وسائل الاعلام المحلية تعليقاً على حلف دول تجمع صنعاء والذي ضم اثيوبيا والسودان واليمن في ديسمبر 2005 قال أفورقي بأن هذا الحلف موجه ضد ارتريا بلا شك، وهو لا يخيفنا، فعلي عبد الله صالح وملس زيناوي سوف يدفعان ثمن ما يجري في بلديهما من اضطرابات، أما بالبشير فهو “سيضيع ومعه السودان”. من يتذكر هذا القول اليوم قد تأخذه الدهشة مما آلت أحوال القادة المذكورين وأن أفورقي له قدرة على التنبؤ الخارق، لكن الحقيقة أكبر من الدهشة؛ فالرجل يتحدث عن مخططات واقعة عاجلاً أم آجلاً، وما يتبقى من الاجتهاد هو تحديد دوره فيها.  ويضيف قائلا : لفهم دوافع سياسة أفورقي الخارجية تجاه السودان واثيوبيا بشكل خاص علينا الرجوع أولاً لحقائق الجغرافية السياسية. فأفورقي يعرف بأن حكمه محاط بدولتين عملاقتين من ناحية التأثير بسبب الموارد البشرية والطبيعية الهائلة،،والحدود المشتركة والروابط التاريخية والاجتماعية، وأن هذا لا يبعث على الاطمئنان، بذلك يكون الوضع الأفضل هو بقاء هذين العملاقين في حالة ضعف دائم. فإرتريا، بحسب أسياس ، يمكن أن تتحول إلى وجبة دسمة سهلة التناول لأحد العملاقين أو كليهما معاً.  ويؤكد فتحي عثمان أن السياسة الخارجية لأفورقي تدور في محورين أولهما هو البقاء في السلطة مهما كان الثمن، والمحور الثاني هو العلاقات مع اديس ابابا. ولفهم  موقف أفورقي من أي مشكلة في القرن الافريقي يجب وضع هذين المحورين  في الاعتبار. فإذا وقفت اديس ابابا مع طرف ضد آخر في أزمة السودان، فإن أفورقي سيقف، وبلا أدني تردد، مع الطريف النقيض، وبكل السبل المتاحة، وهنا لا تهم مصلحة السودان، بل الطرف المناوئ الذي يعاديه،  ويستشهد على ذلك بدخول الرئيس الارتري حرباً ضروساً بالوكالة في الصومال، وذلك بدعمه لحركة المحاكم الإسلامية (والتي يقف على النقيض منها فكراً وعملاً) في حربها ضد القوات الاثيوبية في الصومال حتى انتهي الأمر بفرض عقوبات أمريكية وأممية على ارتريا في عامي 2009 و 2011. فالرجل له باع طويل في حروب الوكالة وأن تدخله في الأزمة في السودان عبر الشرق لا يخرج عن هذه الثوابت مع وضع الاعتبارات للتهديدات لحكمه من شرق السودان ووصول الحرب إليه.

ويضف فتحي عثمان قائلا : إن اللافت للنظر والمثير للشفقة والأسى في آن واحد ليس هو موقف أفورقي، الذي نستطيع المغالبة في فهم أغراضه، بل هو موقف بعض المثقفين في السودان والذين يشعر المواطن الارتري تجاههم بالازدراء لوضعهم أيديهم على يد طاغية وتمجيدهم لدكتاتور يذيق شعبه الواناً من العذاب، فالرجل يصب أطناناً من ملح الإذلال على جروح أمته الغائرة، وأن من يصافحونه ويفرحون بأخذ الصور إلى جانبه إنما يقفون فوق زنازين تئن حجارها قبل ساكنيها؛ ولا يرق لهم سمع ولا يطرف لهم حس وههم يضعون أيديهم في أيدى أعتى جلادي افريقيا.أما نسبة المعاملة التي يلقاها السودانيون في ارتريا إلى اسياس فذلك حشف وسوء كيلة، فالإرتريون موقفهم تجاه السودان وشعبه سيكون مشرفاً سواء كانوا تحت حكم اسياس أم غيره والتاريخ هو الشاهد. فإذا كان في أفورقي خيراً لكان أولى به بلده وشعبه. ومن المستغرب أن تسيل أودية كرمه وعنايته الحادبة لتصل سهول السودان وشعبه يتعطش لنسمه حرية عابرة.

من خلال ما سبق يتضح لنا أن تدخل النظام الارتري في السودان يأتي لاعتبارات عدة منها الحيلولة دون انكسار الجيش السوداني أمام قوات الدعم السريع  لا سيما باتجاه الولايات الشرقية مما يشكل تهديدا للنظام متمثلا في تدفق اللاجئين الفارين من الحرب والذين سيشكل وجودهم بأعداد كبيرة ، تهديدا أمنيا يعجز معه النظام ضبط الحدود والتحكم في المنافذ والمعابر على امتداد الحدود . والاعتبار الثاني هو قطع الطريق عن قوات الدعم السريع في الوصول إلى تخوم الحدود السودانية الاثيوبية  حتى لا تتمكن من إيجاد طريق آخر لدخول الدعم اللوجستي لعملياتها العسكرية في أواسط السودان  عن طريق أثيوبيا التي تربطها بها علاقة جيدة واستقبلت  الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي مطلع العام الجاري استقبال الرؤساء كما شهدت عاصمتها أديس أباب الاجتماع التأسيسي لتنسيقة القوى الديمقراطية المدنية  (تقدم ) وكان رئيس وزرائها أبي أحمد  أول من نادى بفرض حظر على طيران الجيش السوداني العام الماضي ، وفي ظل توتر العلاقات بين إرتريا  واثيوبيا يمكن أن يؤدي ذلك الوصول إلى تكوين جبهة مناوئة على الحدود الارترية الأثيوبية السودانية.

أما الاعتبار الثالث فهو رغبة إرتريا في استمرار الهشاشة والضعف التي عليها السودان كي لا يمثل خطورة على النظام في المستقبل وهذا لا يتأتى إلى من خلال تفتيت وحدته المجتمعية  وتماسكها من خلال ضرب تلك المكونات بعضها ببعض من بإذكاء الخلافات المستعرة بينها حتى لا تقوم لها قائمة ، وهذا ما يفسره  فتح معسكرات التدريب في البلاد لمكونات  شرق السودان المتنافسة والمختلفة في ذات الوقت.

والاعتبار الأخير وهو الابعد،  يمكن أن يخالف اسياس بعضا من قناعاته الثابتة ويسعى إلى استقرار السودان بدلا من زعزعته ـ إن  رأى مهددا آخر خطيرا يهدد عرش سلطته ـ   وبين هذا و ذاك يظل شرق السودان بالنسبة للرئيس افورقي  كما يقول فتحي عثمان مثل قلم الرصاص المبري  من الجهتين يمكن استخدام أيهما فيما يريد ،  زعزعة أو استقرارا 

إدريس سليمان حليفة

COMMENTS

WORDPRESS: 0